العاقل هو من يتوقف عند الحدث أو المناسبة أو الفريضة، فيحاول بلوغ الغاية المرجوّة، وهذا ما ينطبق على شهر رمضان المبارك، فيدرك الصائم أهمية الصوم كوسيلة لمدّ الإنسان بطاقة روحية، وتزكية النفس والارتقاء بها، وكسبيل لوقاية الجسم من الأمراض، وكمدخل لتربية الشخصية الإنسانية وإعدادها إعداداً كاملاً، باعتبار أن "الصوم هو حمام الجسد الداخلي الذي يضفي على العقل والحواس الصفاء والتجرد".
لقد قيل بالصوم قديماً، وتم تناول معانيه ومفاهيمه عند الأمم والشعوب، وفي الأديان والشرائع السماوية التي أكدت على أهميته، وإن اختلفت المواقيت والطرق، إلى أن جاءت الفريضة الإسلامية لتؤكد عليه كأحد أركان العبادات الأساسية، إضافة إلى الشهادة والصلاة والزكاة والحج، حيث لكل فريضة أحكام وأصول، ولها أبعاد ومعانٍ تتجاوز الالتزام الظاهر بها إلى ما هو أبعد وأعمق، أي إلى غايتها وحقيقتها.
فالإسلام غايته التوحيد، والتوحيد هو غاية الأديان كلها، كما أن الحكمة هي غاية الكتاب، حيث لكل فريضة غاية، والمسلم الموحّد الحق هو من يسعى ويسافر في درجات السعي والعبادة والتأمل والتحقق والممارسة، ومن يحاول الارتقاء الدائم لكي يبلغ تلك الغايات بإيمان وجدّ واجتهاد وعون من الله تعالى. وفي هذا المنحى، من الأمانة والصدق والترقي يكمن سرّ الصائم ويبرز شرف الصيام، ويفهم معنى التقوى التي أراد الله جل وعلا أن تكون غاية الصيام، بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.
وإذا كان الصيام فريضة، وهو كذلك، فإن له أدباً خاصاً به، وهو "أدب الصيام"، إذ إن الصيام الحقيقي هو أدب الحياة، لأن "في صيام الفكر سعادة الجنان، وفي صيام الجسد صحته"، والصيام "لا يكون بالانقطاع عن كل شيء، بل بالزهد في كل شيء"، وصولاً إلى أدب الصمت والصوم عن الكلام، ولعله أحوج ما يحتاج إليه معظم الناس، في وقت كثر فيه الكلام وقلت المروءات والأعمال.
كم نحن بحاجة في ظل هذه الأوضاع المتفاقمة في بلادنا لأن نصوم عن الكلام المحرّض، وعن الإساءة المتعمَّدة، وعن العداوات والخصومات القاتلة، وأن نعود إلى حقيقة ذواتنا وإسلامنا وجوهر إنسانيتنا، فندرك أن التعصب والأنانية والكراهية واحتقار الرأي الآخر والتفلت من ضوابط الدين والعقل، كلها تؤدي إلى ضياع الإنسان الفرد، وفساد المجتمع، وهلاك الأمة، وأن العاقل منا، وكل في موقعه وحسب اختصاصه وطاقته، مسؤول أمام الله ورسوله، وأمام المجتمع والوطن، وأمام ضميره الإنساني، لأخذ العبرة من المناسبة التي أرادها الله لعباده محطّة خير وتأمل وتوبة، وللسعي الدؤوب من أجل تحقيق غايتها، وفي ذلك وحده السبيل إلى الصلاح والإصلاح، لا بسواه، من مكابرة وتمادٍ في احتراف لعبة الظلم والقتل والانحراف والكفر بكل ما هو جميل، وقانا ووقاكم الله.